جواب من أنكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». (رواه البخاري ومسلم)
- قال: فإن الليل يطول في بلد ويقصر في آخر، ويكون الليل في بلد والنهار في بلد آخر، فيلزم بهذا الحديث كونه جل شأنه في السماء الدنيا على الدوام إلى قيام الساعة.
-
1- الحديث صحيح ثابت واتفق على قبوله واعتقاده = على ما يليق بالله = علماء أهل السنة.
2- ومن قال بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم = إن كان مما لا يحيط به علمًا = فقوله صواب لا خطأ فيه؛ كمن قرأ القرآن وهو لا يفهم كل ما يقرأ.
3- وهذا الحديث = وإن خفي على المرء = الإحاطة بكيفية الفعل الوارد فيه: فهو من أفعال الله، ولا يستحيل في حقه جل شأنه، ولا يضر المسلم عدم الإحاطة علما بكيفته وماهيته.
- ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه، ووصفَه به رسوله صلى الله عليه وسلم على أساس نفي المماثلة للمخلوقات في الوجود والماهية والكيفية:
- قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (سورة الإخلاص) فبين أنه لم يكن أحدٌ كفوًا له.
- وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (سورة مريم: 65) فأنكر أن يكون له سميّ.
- وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} (سورة البقرة: 22)
- وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} (سورة النحل: 74)
- وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (سورة الشورى: 11)
- ففيما أخبر به عن نفسه، من تنزيهه عن الكفء، والسَّمِيّ، والمثل، والنِّدّ، وضرب الأمثال له؛ بيانٌ أن لا مثل له في صفاته، ولا أفعاله، فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في الذات؛ والذاتان المختلفتان يمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع للفاعل، إذ هو مما يوصف به الفاعل؛ فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان متماثلين، ويكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الموصوفِين، كالإنسانَيْن وإن كانا من نوع واحد: فإنه تختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب اختلاف ذاتيهما، ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك.
- وكذلك إذا قيل: بين الإنسان والفرس تشابه، من جهة أن هذا حيوان وهذا حيوان، واختلاف من جهة أن هذا ناطق وهذا صاهل، وغير ذلك من الأمور: كان بين الصفتين من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الذاتين.
4- وأيضًا: فإن الذات بنفسها لا يتصور أن تكون بلا صفة أصلًا، بل هذا بمنزلة من قال: أُثبتُ إنسانًا، لا حيوانًا، ولا ناطقًا، ولا قائمًا بنفسه، ولا بغيره، ولا له قدرة، ولا حياة، ولا حركة، ولا سكون، ولا نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق، ولا جذْع، ولا لِيفٌ، ولا غير ذلك؛ فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الواقع، وما لا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات مُعَطِّلَة؛ لأن حقيقة قولهم: تعطيل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل.
5- وما فر منه هؤلاء الملاحدة ليس بمحذور, فإنه إذا سُمِّي اللهُ جل شأنه حقًا موجودًا قائمًا بنفسه حيًا عليمًا رءوفًا رحيمًا, وسمى المخلوق بذلك، لم يلزم من ذلك أن يكون مماثلًا للمخلوق أصلًا، ولو كان هذا حقًا، لكان كل موجود مماثلًا لكل موجود، ولكان كل معدوم مماثلًا لكل معدوم، ولكان كل ما ينفي عنه شيء من الصفات مماثلًا لكل ما ينفي عنه ذلك الوصف.
- فإذا قيل: السواد موجود، كنا على قول هؤلاء قد جعلنا كل موجود مماثلًا للسواد. وإذا قلنا: البياض معدوم، كنا قد جعلنا كل معدوم مماثلًا للبياض, ومعلوم أن هذا في غاية الفساد، ويكفي هذا خزيًا لحزب الإلحاد.
- وإذا لم يلزم مثل ذلك في السواد الذي له أمثال بلا ريب، فإذا قيل في خالق العالم: إنه موجود لا معدوم، حي لا يموت، قيوم لا تأخده سنة ولا نوم، لا يلزم أن يكون مماثلًا لكل موجود أو معدوم وحي وقائم، ولا لكل موجود يُنفَي عنه صفة العدم، ولا لكل حي ينفي عنه الموت والنوم، كأهل الجنة الذين لا ينامون ولا يموتون.
6- وكذلك إذا قيل: علم زيد، ونزول زيد، واستواء زيد، ونحو ذلك، لم يدل هذا إلا على ما يختص به زيدٌ من علم ونزول واستواء ونحو ذلك، لم يدل على ما يشاركه فيه غيره؛ لكن لما علمنا أن زيدًا نظير عمرو، وعلمنا أن علمه نظير علمه، ونزوله نظير نزوله، واستواءه نظير استوائه، فهذا علمناه من جهة القياس والمعقول والاعتبار، لا من جهة دلالة اللفظ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق؛ فذلك في الخالق أولى:
- بمعنى: أنه إذا قيل: علم الله، وكلام الله، ونزوله، واستواؤه، ووجوده، وحياته، ونحو ذلك، لم يدل ذلك على ما يشاركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك: كما دل في زيد وعمرو؛ لأنا هناك علمنا التماثل من جهة الاعتبار والقياس لكون زيد مثل عمرو، وهنا نعلم أن الله لا مثل له ولا كفؤ ولا ند، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا استواءه مثل استواء غيره، ولا نزوله مثل نزول غيره، ولا حياته مثل حياة غيره، لأن ماهية الله وحياته ووجوده وكيفيته، لا تماثل وجود خلقه ولا حياتهم ولا ماهيتهم وكيفيتهم.
- ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات، ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات؛ فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه، منزه عن صفات النقص مطلقًا، ومنزه عن أن يمثاله غيره في صفات كماله، فهذان المعنيان جمعا التنزيه، وقد دل عليهما قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} ( سورة الإخلاص: 1، 2) فالاسم {الصمد} يتضمن صفات الكمال، والاسم {الأحد} يتضمن نفي المثل.
7- فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها كلٌّ على ما يليق به؛ فعِلْمُ الله وكلامه ونزوله واستواؤه، هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما تناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته؛ ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك السائل: كيف ينزل، أو كيف استوى، أو كيف يعلم، أو كيف يتكلم ويقدر ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته؛ فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته، فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف.
- بتصرف واختصار من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى.
8- وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة الزُّمَر: 67)
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة. (قال الإمام القرطبي في تفسيره: أخرجه الآجُرِّي وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة)
- قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: ومن المعلوم = ولله المثل الأعلى =: أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟ فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقلُ مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يُدنِي إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدُرْه حق قدره. انتهى
9- وقال بعضهم: هناك زمان نسبي وزمان مطلق غير محدود، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ» إنما يُنسَب إلى الزمان المطلق الذي يدخل فيه الزمانُ النسبي المحدود، أي: المنسوب إلى المخلوق الواحد في وجوده أو فعله، فنقول: ذاكر علي كذا ساعة. ونام زيد كذا ساعة، وعمل عمرو كذا ساعة، وهكذا.... فكل ذلك أزمنة نسبية تدخل في هذا الزمان المطلق غير المحدود.
- فإنه إذا كانت الأرض بالنسبة للسماوات السبع مثل ذرة في فلاة، فإن زمنها يكاد يختفي إذا نُسِب إلى الأزمنة المتعلقة بحركة السماوات وأجرامها، وكل ذلك هو أزمنة نسبية، فإذا كانت السماوات السبع وزمنُها النسبي = أي: المتعلق بوجودها وحركة أجرامها =: معدومًا قبل أن يوجده الله جل شأنه: كان قياس أفعال الله بمقياس هذا الزمان النسبي جناية عقلية، فكل ما ينسب إلى الله سبحانه وتعلق به زمانٌ إنما هو على جهة الإطلاق، لا على ما نعرفه نحن من أنفسنا إذا نسبت أفعالنا إلى زمان.
- فكل عدد في الرياضيات = عظم أو صغر =: إذا نُسب إلى ما لا نهاية: فإنه يساوي صفرًا، فكذلك هنا: يتلاشى ويختفي بالنسبة للزمان المطلق اللائق بأفعال الله سبحانه كل ما يختص بالمعيَّن من المخلوقين، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} (سورة النساء: 126)
- وكما لو خلق الله مليار طفل في تسعة أشهر من عام واحد: كان كل طفل منهم استغرق خلْقُه تسعة أشهر، ((فمجموع مدة فعل الله للخلق باعتبار عدد الأطفال)): تسعة = وهي عدد الأشهر = مضروبة في مليار = وهو عدد الأطفال؛ فالمجموع: هو تسعة مليارات من الشهور، فههنا أدخلنا العدد ((تسعة مليارات)) باعتبار عدد الأطفال: في إطار ((العدد تسعة)) باعتبار عدد الشهور؛ فكذلك هنا يحيط فعل الله بأفعال خلقه إذا كان هو واحدًا مطلقًا في وجوده وصفته وفعله، وسبحانه وتقدس أن يحيط به أحد من خلقه؛ قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (سورة لقمان: 28)
- وقال جل شأنه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة النحل: 77) فأخبر سبحانه أن قيام الساعة وإحياء الموتى وبعثهم مع كونه أمرًا عظيمًا هو في الوقت بحسب قدرته تعالى: أسرع من لمح البصر، وأن المليارات من النفوس تتساوى في قدرته جل شأنه مع النفس الواحدة في إمكانية البعث والإحياء.
- ومنه قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سورة يونس: 61)
- فأخبر سبحانه عن علمه بأحوال عباده وأعمال جميعهم = أي عمل كان، في أي وقت، في أي مكان كان، صغر أو كبر، أسروا به أو أعلنوا، ومهما ظنَّه الكافرون بعيدًا أو خفيًّا =: فهو جل شأنه شهيد رقيب لا يغيب عنه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، ولا يخفى عنه شيء ولو بلغ في حقارته وصغره مثقالَ ذرة كائنة في السموات أو في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر قبل أن تكون إلا في كتاب مبين.
- وأيضًا فإن المرء حال نومه يتعطل إحساسه بالزمن، فيستيقظ ولا يشعر بمقدار المدة التي مكثها نائمًا ولو طالت، قال تعالى في شأن الفتية أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (سورة الكهف: 19) مع كونهم لبثوا في كهفهم نيامًا ثلاثمائة وتسعة أعوام، قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (سورة الكهف: 25) فاختزل نوم هؤلاء مئات من السنين في شعورهم إلى بعضٍ من يوم.
- وأخبر سبحانه عن حال الناس يوم القيامة، واختلافهم في مقدار المدة التي لبثوها في قبورهم أمواتًا، فقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا. يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} (سورة طه: 102- 104) فاختزل موت هؤلاء آلافًا من السنين في شعورهم إلى يوم واحد.
- ويقول الفيزيائيون: إن الساعات التي نستخدمها على الأرض مضبوطة على النظام الشمسي، لكن النظام الشمسي ليس هو النظام الوحيد في الكون، فلا يمكن أن نفرض تقويمه الزمني على الكون كله، أو أن نعتبر الكميات التي نقيس نحن بها كميات مطلقة، بل ولا يمكن أن نتخذ من الحساب الزمني على كوكبٍ ما مقياسًا لحساب الزمن على كوكب آخر ولو في نفس المجموعة الشمسية، فالإنسان الذي يسكن عطارد = مثلًا = سوف يحدد للزمن مقاييس مختلفة تمام الاختلاف عن المقاييس المستخدمة على كوكب الأرض، إذ أن عطارد يدور حول نفسه دورة كاملة في ثمانية وثمانين يومًا بحساب كوكب الأرض، وهو في نفس هذه المدة يكون قد دار دورة كاملة حول الشمس؛ بسبب بطء دورانه حول نفسه مع قصر مداره حول الشمس وقربه منها، ومعنى هذا: أن طول اليوم على كوكب عطارد يساوي طول السنة على نفس الكوكب، وهو تقويم يختلف تمامًا عن تقويمنا، وبذلك يكون الزمن مقدارًا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذي اشتُقَّ منه.
- بتصرف من كتاب أينشتين والنظرية النسبية لمصطفى محمود.
- وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (سورة القصص: 71، 72) فالليل والنهار شيء مجعول، والله هو خالقه وجاعله، ومحال أن يقاس فعله جل شأنه بمقياس شيءٍ مخلوقٍ له.
- وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ فقَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» (رواه البخاري ومسلم) فهنا عطّل الله أبعاد السمع والبصر ومسافة الرؤية في أبصار المشركين وأسماعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، والمسافة بين الفريقين ذراع أو أقل، وأعملها في صخور الغار وأرضه المحيطة بالصاحبَيْن، فأخرج أجسامًا مرئية من أبعادها المرئية إلى أبعاد غير مرئية ولا مسموعة وهي في مكانها لم تبرح، وهذا في نفس الوقت الذي يراهم فيه النبيُّ صلى الله عيه وسلم وصاحبُه في الغار قائِمِين أمامهم، ويسمعان كلامهم.
- وعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ». فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. تَرَى مَا لاَ أَرَى. تُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري ومسلم)
- فأسماع البشر وأبصارهم وأصواتهم المحدودة يَحْصُر قوّتها وأبعادَها مقياسُ المسافةِ التي تحدُّها، وقد ألغى الله هذا المقياس لأنبيائه حال رؤيتهم الملائكة وخطابهم وسماع كلامهم عليهم السلام.
- فكل ذلك مما يقرب حديث النزول، ولا يحيله عقلًا، لأن إنكاره قائم على تحكيم مقياس المسافة والزمن في أفعال الله سبحانه، فإذا كان المسافة والزمن ليسا مقياسًا كليًّا بالنسبة للمخلوقات: فأولى أن لا يكون مقياسًا لأفعال الخالق جل شأنه.
- والحاصل أن إثبات الصفة: لا يتطرق إلى وصف كيفيتها، كما أن وصف الآدمي بالعاقل: ليس فيه تطرق لماهية وكيفية عقله؛ فكذلك هنا في حديث النزول: ينسب فعل الله سبحانه إليه على ما يليق بذاته جل شأنه، ولا يضر المسلمَ عدمُ الإحاطة علمًا بكيفته أو ماهيته، فإن الآدمي لا يحيط بماهية عقله ولا كيفيته، فعقله غيب بالنسبة له، ولا يضره ذلك في إثبات فعل التفكر لنفسه؛ وهو أكبر من أن يحيط به عقلُ نفسه، ولا ينفي ذلك كونه عاقلًا.
-
- والحمد لله أولًا وآخرًا.
- قال: فإن الليل يطول في بلد ويقصر في آخر، ويكون الليل في بلد والنهار في بلد آخر، فيلزم بهذا الحديث كونه جل شأنه في السماء الدنيا على الدوام إلى قيام الساعة.
-
1- الحديث صحيح ثابت واتفق على قبوله واعتقاده = على ما يليق بالله = علماء أهل السنة.
2- ومن قال بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم = إن كان مما لا يحيط به علمًا = فقوله صواب لا خطأ فيه؛ كمن قرأ القرآن وهو لا يفهم كل ما يقرأ.
3- وهذا الحديث = وإن خفي على المرء = الإحاطة بكيفية الفعل الوارد فيه: فهو من أفعال الله، ولا يستحيل في حقه جل شأنه، ولا يضر المسلم عدم الإحاطة علما بكيفته وماهيته.
- ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه، ووصفَه به رسوله صلى الله عليه وسلم على أساس نفي المماثلة للمخلوقات في الوجود والماهية والكيفية:
- قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (سورة الإخلاص) فبين أنه لم يكن أحدٌ كفوًا له.
- وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (سورة مريم: 65) فأنكر أن يكون له سميّ.
- وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} (سورة البقرة: 22)
- وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} (سورة النحل: 74)
- وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (سورة الشورى: 11)
- ففيما أخبر به عن نفسه، من تنزيهه عن الكفء، والسَّمِيّ، والمثل، والنِّدّ، وضرب الأمثال له؛ بيانٌ أن لا مثل له في صفاته، ولا أفعاله، فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في الذات؛ والذاتان المختلفتان يمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع للفاعل، إذ هو مما يوصف به الفاعل؛ فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان متماثلين، ويكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الموصوفِين، كالإنسانَيْن وإن كانا من نوع واحد: فإنه تختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب اختلاف ذاتيهما، ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك.
- وكذلك إذا قيل: بين الإنسان والفرس تشابه، من جهة أن هذا حيوان وهذا حيوان، واختلاف من جهة أن هذا ناطق وهذا صاهل، وغير ذلك من الأمور: كان بين الصفتين من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الذاتين.
4- وأيضًا: فإن الذات بنفسها لا يتصور أن تكون بلا صفة أصلًا، بل هذا بمنزلة من قال: أُثبتُ إنسانًا، لا حيوانًا، ولا ناطقًا، ولا قائمًا بنفسه، ولا بغيره، ولا له قدرة، ولا حياة، ولا حركة، ولا سكون، ولا نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق، ولا جذْع، ولا لِيفٌ، ولا غير ذلك؛ فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الواقع، وما لا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات مُعَطِّلَة؛ لأن حقيقة قولهم: تعطيل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل.
5- وما فر منه هؤلاء الملاحدة ليس بمحذور, فإنه إذا سُمِّي اللهُ جل شأنه حقًا موجودًا قائمًا بنفسه حيًا عليمًا رءوفًا رحيمًا, وسمى المخلوق بذلك، لم يلزم من ذلك أن يكون مماثلًا للمخلوق أصلًا، ولو كان هذا حقًا، لكان كل موجود مماثلًا لكل موجود، ولكان كل معدوم مماثلًا لكل معدوم، ولكان كل ما ينفي عنه شيء من الصفات مماثلًا لكل ما ينفي عنه ذلك الوصف.
- فإذا قيل: السواد موجود، كنا على قول هؤلاء قد جعلنا كل موجود مماثلًا للسواد. وإذا قلنا: البياض معدوم، كنا قد جعلنا كل معدوم مماثلًا للبياض, ومعلوم أن هذا في غاية الفساد، ويكفي هذا خزيًا لحزب الإلحاد.
- وإذا لم يلزم مثل ذلك في السواد الذي له أمثال بلا ريب، فإذا قيل في خالق العالم: إنه موجود لا معدوم، حي لا يموت، قيوم لا تأخده سنة ولا نوم، لا يلزم أن يكون مماثلًا لكل موجود أو معدوم وحي وقائم، ولا لكل موجود يُنفَي عنه صفة العدم، ولا لكل حي ينفي عنه الموت والنوم، كأهل الجنة الذين لا ينامون ولا يموتون.
6- وكذلك إذا قيل: علم زيد، ونزول زيد، واستواء زيد، ونحو ذلك، لم يدل هذا إلا على ما يختص به زيدٌ من علم ونزول واستواء ونحو ذلك، لم يدل على ما يشاركه فيه غيره؛ لكن لما علمنا أن زيدًا نظير عمرو، وعلمنا أن علمه نظير علمه، ونزوله نظير نزوله، واستواءه نظير استوائه، فهذا علمناه من جهة القياس والمعقول والاعتبار، لا من جهة دلالة اللفظ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق؛ فذلك في الخالق أولى:
- بمعنى: أنه إذا قيل: علم الله، وكلام الله، ونزوله، واستواؤه، ووجوده، وحياته، ونحو ذلك، لم يدل ذلك على ما يشاركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك: كما دل في زيد وعمرو؛ لأنا هناك علمنا التماثل من جهة الاعتبار والقياس لكون زيد مثل عمرو، وهنا نعلم أن الله لا مثل له ولا كفؤ ولا ند، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا استواءه مثل استواء غيره، ولا نزوله مثل نزول غيره، ولا حياته مثل حياة غيره، لأن ماهية الله وحياته ووجوده وكيفيته، لا تماثل وجود خلقه ولا حياتهم ولا ماهيتهم وكيفيتهم.
- ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات، ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات؛ فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه، منزه عن صفات النقص مطلقًا، ومنزه عن أن يمثاله غيره في صفات كماله، فهذان المعنيان جمعا التنزيه، وقد دل عليهما قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} ( سورة الإخلاص: 1، 2) فالاسم {الصمد} يتضمن صفات الكمال، والاسم {الأحد} يتضمن نفي المثل.
7- فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها كلٌّ على ما يليق به؛ فعِلْمُ الله وكلامه ونزوله واستواؤه، هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما تناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته؛ ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك السائل: كيف ينزل، أو كيف استوى، أو كيف يعلم، أو كيف يتكلم ويقدر ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته؛ فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته، فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف.
- بتصرف واختصار من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى.
8- وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة الزُّمَر: 67)
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة. (قال الإمام القرطبي في تفسيره: أخرجه الآجُرِّي وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة)
- قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: ومن المعلوم = ولله المثل الأعلى =: أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟ فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقلُ مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يُدنِي إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدُرْه حق قدره. انتهى
9- وقال بعضهم: هناك زمان نسبي وزمان مطلق غير محدود، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ» إنما يُنسَب إلى الزمان المطلق الذي يدخل فيه الزمانُ النسبي المحدود، أي: المنسوب إلى المخلوق الواحد في وجوده أو فعله، فنقول: ذاكر علي كذا ساعة. ونام زيد كذا ساعة، وعمل عمرو كذا ساعة، وهكذا.... فكل ذلك أزمنة نسبية تدخل في هذا الزمان المطلق غير المحدود.
- فإنه إذا كانت الأرض بالنسبة للسماوات السبع مثل ذرة في فلاة، فإن زمنها يكاد يختفي إذا نُسِب إلى الأزمنة المتعلقة بحركة السماوات وأجرامها، وكل ذلك هو أزمنة نسبية، فإذا كانت السماوات السبع وزمنُها النسبي = أي: المتعلق بوجودها وحركة أجرامها =: معدومًا قبل أن يوجده الله جل شأنه: كان قياس أفعال الله بمقياس هذا الزمان النسبي جناية عقلية، فكل ما ينسب إلى الله سبحانه وتعلق به زمانٌ إنما هو على جهة الإطلاق، لا على ما نعرفه نحن من أنفسنا إذا نسبت أفعالنا إلى زمان.
- فكل عدد في الرياضيات = عظم أو صغر =: إذا نُسب إلى ما لا نهاية: فإنه يساوي صفرًا، فكذلك هنا: يتلاشى ويختفي بالنسبة للزمان المطلق اللائق بأفعال الله سبحانه كل ما يختص بالمعيَّن من المخلوقين، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} (سورة النساء: 126)
- وكما لو خلق الله مليار طفل في تسعة أشهر من عام واحد: كان كل طفل منهم استغرق خلْقُه تسعة أشهر، ((فمجموع مدة فعل الله للخلق باعتبار عدد الأطفال)): تسعة = وهي عدد الأشهر = مضروبة في مليار = وهو عدد الأطفال؛ فالمجموع: هو تسعة مليارات من الشهور، فههنا أدخلنا العدد ((تسعة مليارات)) باعتبار عدد الأطفال: في إطار ((العدد تسعة)) باعتبار عدد الشهور؛ فكذلك هنا يحيط فعل الله بأفعال خلقه إذا كان هو واحدًا مطلقًا في وجوده وصفته وفعله، وسبحانه وتقدس أن يحيط به أحد من خلقه؛ قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (سورة لقمان: 28)
- وقال جل شأنه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة النحل: 77) فأخبر سبحانه أن قيام الساعة وإحياء الموتى وبعثهم مع كونه أمرًا عظيمًا هو في الوقت بحسب قدرته تعالى: أسرع من لمح البصر، وأن المليارات من النفوس تتساوى في قدرته جل شأنه مع النفس الواحدة في إمكانية البعث والإحياء.
- ومنه قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سورة يونس: 61)
- فأخبر سبحانه عن علمه بأحوال عباده وأعمال جميعهم = أي عمل كان، في أي وقت، في أي مكان كان، صغر أو كبر، أسروا به أو أعلنوا، ومهما ظنَّه الكافرون بعيدًا أو خفيًّا =: فهو جل شأنه شهيد رقيب لا يغيب عنه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، ولا يخفى عنه شيء ولو بلغ في حقارته وصغره مثقالَ ذرة كائنة في السموات أو في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر قبل أن تكون إلا في كتاب مبين.
- وأيضًا فإن المرء حال نومه يتعطل إحساسه بالزمن، فيستيقظ ولا يشعر بمقدار المدة التي مكثها نائمًا ولو طالت، قال تعالى في شأن الفتية أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (سورة الكهف: 19) مع كونهم لبثوا في كهفهم نيامًا ثلاثمائة وتسعة أعوام، قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (سورة الكهف: 25) فاختزل نوم هؤلاء مئات من السنين في شعورهم إلى بعضٍ من يوم.
- وأخبر سبحانه عن حال الناس يوم القيامة، واختلافهم في مقدار المدة التي لبثوها في قبورهم أمواتًا، فقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا. يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} (سورة طه: 102- 104) فاختزل موت هؤلاء آلافًا من السنين في شعورهم إلى يوم واحد.
- ويقول الفيزيائيون: إن الساعات التي نستخدمها على الأرض مضبوطة على النظام الشمسي، لكن النظام الشمسي ليس هو النظام الوحيد في الكون، فلا يمكن أن نفرض تقويمه الزمني على الكون كله، أو أن نعتبر الكميات التي نقيس نحن بها كميات مطلقة، بل ولا يمكن أن نتخذ من الحساب الزمني على كوكبٍ ما مقياسًا لحساب الزمن على كوكب آخر ولو في نفس المجموعة الشمسية، فالإنسان الذي يسكن عطارد = مثلًا = سوف يحدد للزمن مقاييس مختلفة تمام الاختلاف عن المقاييس المستخدمة على كوكب الأرض، إذ أن عطارد يدور حول نفسه دورة كاملة في ثمانية وثمانين يومًا بحساب كوكب الأرض، وهو في نفس هذه المدة يكون قد دار دورة كاملة حول الشمس؛ بسبب بطء دورانه حول نفسه مع قصر مداره حول الشمس وقربه منها، ومعنى هذا: أن طول اليوم على كوكب عطارد يساوي طول السنة على نفس الكوكب، وهو تقويم يختلف تمامًا عن تقويمنا، وبذلك يكون الزمن مقدارًا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذي اشتُقَّ منه.
- بتصرف من كتاب أينشتين والنظرية النسبية لمصطفى محمود.
- وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (سورة القصص: 71، 72) فالليل والنهار شيء مجعول، والله هو خالقه وجاعله، ومحال أن يقاس فعله جل شأنه بمقياس شيءٍ مخلوقٍ له.
- وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ فقَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» (رواه البخاري ومسلم) فهنا عطّل الله أبعاد السمع والبصر ومسافة الرؤية في أبصار المشركين وأسماعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، والمسافة بين الفريقين ذراع أو أقل، وأعملها في صخور الغار وأرضه المحيطة بالصاحبَيْن، فأخرج أجسامًا مرئية من أبعادها المرئية إلى أبعاد غير مرئية ولا مسموعة وهي في مكانها لم تبرح، وهذا في نفس الوقت الذي يراهم فيه النبيُّ صلى الله عيه وسلم وصاحبُه في الغار قائِمِين أمامهم، ويسمعان كلامهم.
- وعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ». فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. تَرَى مَا لاَ أَرَى. تُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري ومسلم)
- فأسماع البشر وأبصارهم وأصواتهم المحدودة يَحْصُر قوّتها وأبعادَها مقياسُ المسافةِ التي تحدُّها، وقد ألغى الله هذا المقياس لأنبيائه حال رؤيتهم الملائكة وخطابهم وسماع كلامهم عليهم السلام.
- فكل ذلك مما يقرب حديث النزول، ولا يحيله عقلًا، لأن إنكاره قائم على تحكيم مقياس المسافة والزمن في أفعال الله سبحانه، فإذا كان المسافة والزمن ليسا مقياسًا كليًّا بالنسبة للمخلوقات: فأولى أن لا يكون مقياسًا لأفعال الخالق جل شأنه.
- والحاصل أن إثبات الصفة: لا يتطرق إلى وصف كيفيتها، كما أن وصف الآدمي بالعاقل: ليس فيه تطرق لماهية وكيفية عقله؛ فكذلك هنا في حديث النزول: ينسب فعل الله سبحانه إليه على ما يليق بذاته جل شأنه، ولا يضر المسلمَ عدمُ الإحاطة علمًا بكيفته أو ماهيته، فإن الآدمي لا يحيط بماهية عقله ولا كيفيته، فعقله غيب بالنسبة له، ولا يضره ذلك في إثبات فعل التفكر لنفسه؛ وهو أكبر من أن يحيط به عقلُ نفسه، ولا ينفي ذلك كونه عاقلًا.
-
- والحمد لله أولًا وآخرًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق